رمضان 1427
المكان مزدحم بالوجوه الطاهرة
مابين راكع وساجد..وتالِ وذاكر..
قلوب تفيض بالنور.. أصغي لنبضها الخاشع فينعشني..ويغرس في نفسي أزاهير الفأل..
هنا في الحرم..تتلاشى حدود الأوطان وتذوب حين يلتهب الإخاء الصادق..مضيئاَ قبس الإنسانية للعالمين..
في ليلة الرابع والعشرين..كانت واقفة بجواري..
تنفلت بعدة ركعات..وبعدها جلست بقربي..
كانت تحمل بين يديها "كتيب أدعية "..وبين شفتيها تساؤل يتعطش لإجابة..
بلطف بادرتني بتساؤلها عن مدى صحة مافي هذا الكتيب بعد أن ناولتني إياه..فأجبتها بما ظهر لي..
شعرت بالغبطة وأنا ألمح في سؤالها حرصاً على الالتزام بالكتاب والسنة ومجانبتها للمخالفة والابتداع..
سألتها تودداَ: من أين أنتِ؟؟
أجابتني بأنها من لبنان قدمت مع إحدى الحملات لأداء العمرة..
ابتسمت لما علمت أنها من لبنان الجريح..
تجاذبنا أطراف الحديث..وعلمت منها فيما بعد أنها في الخامسة والعشرين من عمرها ..يتيمة الأب والأم..وأن لها إخوة يصغرنها وهي التي تعولهم وتبذل قصارى جهدها من أجل إسعادهم..
كانت فتاة غاية في الجمال..!! لكنها آثرت رفض الكثير ممن تقدموا لها طلبا في رجل الخلق والدين ،،ورغبة فيمن يعينها على الثبات ..
حدثتني أنها سمعت في لبنان عن حال بنات أرض الحرمين قدوة نساء الدنيا في الامتثال للشرع ..سمعت بأنهن تراجعن وكثير منهن فتنَّ ببهارج الغرب وانبهرن بأضوائه..
ثم استدركت بقولها:لكني تعرفت على فتيات في الحرم و لم يكن كذلك كما نقل لنا فلا أدري أحقاً ما نقل إلي؟!
ساءني كثيراً ماسمعت فبينت لها:عزيزتي براءة يوجد من بيننا من انبهر وظن أن التمسك بتعاليم الدين تخلف ورجعية لكنهن قلة و الخير كثير بإذن الله..ويعلم الله كم شعرت بغصص كلماتها تخنقني..ألهذه الدرجة تتوق المسلمات لاقتفاء سبيلنا وتقصي آثارنا !!..هل هذه النظرة لبنات الحرمين بالذات!!
وااااا أسفاه ان ضيعنا الدين بأفعالنا..
كانت تطلب مني - حفظها الله- بأن أدعو لها بالثبات فالحياة عندهم في لبنان تسلب اللب والعقل..كانت تقول لي كلما صلينا على جنازة :متى يقال الصلاة على براءة!!؟؟
فجعت بقولها..براءة لم هذه الكلمات!! ..الحياة أمامك ..ونريدك أن تعودي داعية لمجتمعك في لبنان فالأمة تنتظرك.
قالت لي : فعلنا ذلك واهتدى الكثير في لبنان ببعض الأعمال التي فعلناها هناك ونسأل الله القبول لكني جئت للمدينة المنورة وللعمرة بتوبة نصووووح و أخاف أن تضيع توبتي سدى عند عودتي _وكانت حفظها الله تضم أصابع كفها وتقبض يدها دلالة على صدق التوبة التي جاءت بها -ثم تبسط أصابعها تشبيهاً لخوفها من تفلت دينها هناك في لبنان وقد سطر الدمع حروف الصدق في مقلتيها..
أقيمت صلاة التراويح فصلت بجواري وعلى سجادتي وكان الإمام يقرأ في سورة غافر والزمر كانت تبكي وتبكي عند تلاوة الآيات متأثرة بما تسمع حتى تساقط دمعها درراً طاهرة على سجادتي...،عندها والله خنقتني العبرة من شدة بكائها
أتدرون لمَ؟؟
لأني أحسست بشعورها.. شعور التائبة العائدة لمولاها تسأله العفو والصفح عنها.. تسأله أن تنال شرف محبته وقربه...ولاتملك سوى الدمع دليلا صادقا لعودتها ... فعلا يابراءة كم لعودة التائب لربه من لذة يجدها في صدره ..بل هو حنين لرب طال انقطاع عبده الذي طالما أحبه...أراه كذلك العبد الآبق من سيده الذي طالما أحسن له ..فعندما تنبه للحقيقة عاد لسيده كسيرا ذليلا خافضا له ..مُنكباً على قدميه طالبا منه السماح والعفو..
كم كانت تبكي والإمام يرتل (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)وكنت أسمعها تردد..بلى يارب.. بلى يارب...
انتهت صلاة التراويح ..بعدها أخبرتني أن إحدى الأخوات في الحرم شجعتها للبس الحجاب الشرعي ،وأنها وعدتها أن تذهب معها لشرائه..
كانت تقول لي غدا موعدي لزيارة بيت الحبيب..غدا سوف نذهب لمكة لآداء العمرة ولا أحب أن أدخل بيت الله بلباسي هذا(وكانت تلبس حفظها الله سترة ساترة وتحتها بنطال واسع)كانت تقول بيت الله عظيم وأشعر بهيبة عند دخوله وأريد أن أدخله بلباس يرضيه ..سألبس العباءة التي تلبسنها يابنات الحرمين وأسأل الله أن يثبتني في لبنان على لبسها...ثم ذهبت.
وقبل صلاة التهجد من ذلك اليوم وفي نفس المكان وبينما كنت أصلي وقفت بجواري فتاة .. واضعة حقيبتها امامي ..فغمرتني سعادة لا توصف لأنها كانت حقيبة براءة فعلمت أنها قد اشترت العباءة ولبستها...(ما أسرع مالبست الحجاب الشرعي يابراءة هكذا بلا تردد!!فحدثتني النفس حينها كم من بنات التوحيد في بلادنا تتردد في لبس الحجاب الشرعي وتخشى من القاب قد ترصدها..تتردد ..لا بل وتريد أن تستخير في أمر.. هو أصل سعادتها..)
بعد انتهائي من الصلاة وقفت براءة وبصوت عااال قالت شو رأيك؟؟حتى أنها لفتت أنظار من حولنا:-)
وقفت لها فرأيتها قد اكتست بالسواد من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها فضممتها بحرارة وهمست لها قائلة:أسأل الله لك الثبات...
تداعبنا سويا ..واتفقنا على أن تعمل مقلب فيمن أتى معها في الحملة ..وأن تفاجئهم بعبائتها وستر وجهها..ضحكنا سويا لفكرة المقلب الذي اتفقنا عليه...وقد كانت تحمل روح الدعابة كثيرا حفظها الله.
بعدها صلينا التهجد وبعد الإنتهاء ..تنفلت بركعتين فجاءت حينها هامسة لي في أذني وأنا اصلي قائلة: أستودعك الله ثم ذهبت... فلقد كانت مع صباح الغد ستسافر مع حملتها التي قدمت من لبنان لمكة لآداء العمرة.. وكم تمنيت لو أني ودعتها وسلمت عليها .
ذهبت وهي الوحيدة من بين نساء حملتها التي كانت ترتدي العباءة السوداء الساترة..
ذهبت وهي الوحيدة التي هابت دخول المكان بلباسها الأول ..
ذهبت براءة وقد أخبرتني أن حملتها ستعود للمدينة بعد أربعة أيام ..
وقد قلت لها سابقا يابراءة سأنتظرك كل يوم في نفس هذا المكان حتى ألقاك ..وإن لم تأتي فأعرف أنك قد فارقت الحياة(قلت لها ذلك وانا مازحة لكنني في قرارة نفسي أقصد ذلك الطلب من شدة ماكانت تسأل الله أن يتوفاها عاجلا غير آجل غير مفتونة ..سألتها ذلك لأني أحسست من كلامها كم تتمنى الوفاة بأرض المدينة ...سألتها ذلك لأني خفت فعلا أن يحدث لها ما تمنت وأرادت...
ومضت ليال رمضان ..ولا زلت أنتظرها حتى آخر ساعة من رمضان..لم تأتي ...ولم أرى أي فرد ممن كنت أعرفهم من حملتها..
بكيت حينها..لأنه مع زحمة الكلام لم آخذ رقمها ولا عنوانها...سألت ربي أن يريني إياها قبل خروجي من أرض الحرم النبوي
انتظرت وانتظرت ..ولكن براءة لم تأتي..... سمعت أيام رمضان أن الكثيرمن الحملات اللاتي يأتون من مكة وبعد أدائهم للعمرة قد حدث لهم حادث وتوفي الكثير منهم..وفعلا كم كانت أيام كنت أسمع المنادي يقول قيها الصلاة على الأموات رحمكم الله ...
ذهبت براءة.....
ولا أعلم هل هي من عداد الأحياء؟؟ فأسأل الله لها الثبات ؟؟
أم هي من عداد الأموات؟؟ فأسأل الله لها أن يتغمدها بوابل الرحمات؟؟ ..
فعلاً يابراءة ..تعلمت منك الكثير..
علمت أن العبد وإن أخطأ في جنبك يارب فإن مآله اليك..
علمت أنك تؤوي كل من يلوذ اليك..
علمت أنك يارب تختار وتصطفي من العباد من صدق في اللجأ اليك..
علمت أن لك يارب عباد أحبوك حق المحبة وبذلوا أرواحهم لأجلك..
علمت أن الحياة وان طالت فلابد لها من زوال..
علمت أني مهما أحببت من البشر فإني سأفارقهم يوما مــــا ..
علمت أن من الطيبين من جعلنا نحن بنات الحرمين دلالة هدى وشعاراً لهذا الدين وأن نساء المسلمين يتطلعن إلينا على أننا قدوات الزمان .............فالله الله ياأخواتي بالتمسك بالدين ولنحترم تعاليمه ففيه السعادة والطمأنينة لكل نفس وذلك وعد الله لنا(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) فالحياة الطيبة بطاعة ربنا ..الحياة الطيبة بالتمسك بتعاليم ديننا..،،فلا يؤتى الدين من قبلنا...
علمتني كثيراً يابراءة في أيام قلائل وأسأل الله أن يجمعني بك في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
أختك التي أحبتك يابراءة
مرام
منقول